أوراق مبعثرة… من حياة ممرض (10)

الورقة العاشرة ( ليلة الأول من ذو الحجة)

إنها الليلة الأخيرة من شهر ذو القعدة…

وغداً سيكون الدوام لمدة اثنتا عشر ساعة…

وعدد الطاقم الطبي بهذه النوبة لم يتجاوز ثلاث أفراد…

وبدأت النوبة في تمام الساعة الحادية عشر مساءً…

ووجدتُ نفسي مستلماً لثلاث غرف بقسم الباطنة…

الغرفة الأولى وهي غرفة العناية المتوسطة…

بها ثلاث حالات خطرة…

والغرفة الثانية بها أربع حالات تحتاج إلى عناية خاصة…

والغرفة الثالثة وبها أربع حالات نوعاً ما مستقرة…

مجموع المرضى المطلوب مني رعايتهم هو إحدى عشرة مريض…

يا لا الهول…

لقد صُدمت تماماً…

ورفضت استلام الحالات…

فأنا بشر لي طاقة محددة…

وجاء مشرف النوبة موبخاً لي…

وقال استلم الحالات والا سوف اشكوك على مشرفة التمريض الليلي…

رفضت وبشدة وقلت له اذهب واشكوني لمدير المستشفى…

لن استلم تلك الغرف…

اعطيني غرفك وخذ هذه الغرف…

وجاءت مشرفة التمريض الليلي الممرضة جيهان…

هي ممرضة كشميرية…

وقالت لي استلم الحالات…

قلت لها لا وألف لا لن استلم…

فأني بشر لي مقدرة…

قالت طيب لو سلمتك مرضى بغرف أخرى هل ستستلم…

حقيقة قبل الاعتراض قمت كعادتي بالمرور على جميع المرضى بكل الغرف…

ووجدت أن الغرف التي تم توزيعها لي هي أسوأ الغرف من حيث الحالات…

وأما أفضل الغرف فهي كانت من نصيب مشرف الفترة بالقسم التونسي عبدالله…

فقد نال غرف لمرضى الشيخوخة…

وبعد تفكير قلت لها ما عندي مشكلة استلم غرف وحالات أخرى…

المهم تم تبديل غرفي مع غرف الممرضة الهندية شاكرة…

كان سر اعتراضي على استلام الحالات هو بكل بساطة انها حالات عناية…

وليست حالات بسيطة…

مسكينة هي شاكرة…

لقد أوقعت نفسها في مشكلة كبيرة وهي تظن أنها تساعد في حل الخلاف…

بعدما اقنعتها المشرفة على أنها ستحضر لها من يساعدها في حال توفر أحد…

كان من ضمن الحالات التي هربت منها حالة دوالي بالمريء…

وهي حالة في غيبوبة…

وتحتاج إلى عناية ورعاية مستمرة…

وكانت هناك حالة جلطة بالدماغ وبغيبوبة أيضاً…

وحالة فشل بالجهاز التنفسي وبغيبوبة أيضاً وعلى جهاز تنفس صناعي…

هذه الثلاث حالات تحتاج لوحدها فريق تمريضي وليس ممرض أو ممرضة…

وكان بالغرف الأخرى مرضى هبوط بالقلب…

وهناك الحاج بسيوني…

كان يعاني من جلطة بالدماغ…

وهو الآن شبه وعٍ…

ولكن يحتاج إلى متابعة…

فهو كثير الحركة…

وظلّت شاكرة تعمل طول النوبة بلا توقف…

وعند الساعة الثالثة فجراً سقط الحاج بسيوني…

وشج رأسه…

وحضرت للمساعدة…

فنظرت لي شاكرة بنظرة قهر…

وقالت لي لماذا لم تخبرني عن وضع الغرف؟…

قلت لها أنكَ أقدم مني ولديكِ خبرتك وشاهدتي اعترض على استلام الحالات…

لماذا قبلتِ استلامها؟…

فالمثل يقول رحم الله أمرئٍ عرف قدر نفسه…

ولم تمضِ ساعة على شج  رأس الحاج بسيوني حتى توفى مريض لديها…

لقد عانت كثيراً…

وقد ساعدتها بقدر المستطاع…

فأنا لدي أيضاً مرضى عددهم حوالي خمس عشرة حالة…

وفي ظل انشغالي بحالاتي مع مساعدة شاكرة…

استلم مشرف النوبة أو الفترة حالة مريض…

وجاء لتسليمي ملف الحالة…

ذهبت للحالة لأجد أن المريض تم استلامه ميتاً من قسم الطوارئ…

وجئت إلى مشرف النوبة رافضاً الاستلام…

فكيف يستلم حالة ميته…

وفي النهاية استلمتها إكراماً للميت وقمت بإكمال الإجراءات المتبعة عند وفاة حالة…

ولم أنتهي من عملي إلا عند التاسعة صباحاً…

أي بعد انتهاء عملي بساعتين…

بينما ظلت شاكرة تعمل وتنهي عملها إلى الساعة الثانية عشر ظهراً…

لنعود عند السابعة مساءً للعمل من جديد…

رغم الارهاق والتعب…

لقد كانت الأمور عجيبة…

وكان عدد المرضى يفوق عدد الكادر التمريضي…

لقد كان بكل غرفة وهي غرف لا تتسع إلا لسريرين كان بها أربعة اسرة…

أحسنت الدولة تنظيماً للحج…

وذلك باشتراطها قدرة الحاج على الحج…

فقد كان يأتي الحاج وهو غير لائق صحياً للحج…

وأحسنت الحكومة بتحديد عدد الحجاج القادمين من كل بلد…

فبالرغم من الإمكانيات الجبارة التي توفرها الدولة إلا أن الشق أكبر من الرقعة…

مملكتنا لا تبخل على حجيج بيت الله بالخدمات المجانية…

ولو أن دولة غيرها كانت مسؤولة لكانت قدمتها بغالي الأثمان…

ويأتي من يأتي لينظّر ويسئ إلى ما تقدمة حكومتنا الرشيدة…

كان هناك سوء تنظيم فكانت الخدمات مستهلكة بالكامل…

ومع التنظيم بات الحج أكثر سلامة وخلواً من الأمراض…

ودمتم دائماً بصحة وسلامة…